تفسير ذلك الكتاب لا ريب فيه

تفسير قوله تعالى: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)

في الواقع يقف الإنسان أمام آيات الله -تعالى- حائرا لما فيها من العظمة وقوة الكلام الجامع والمحكم إذ لم يسبق أو بالأحر لم يتجرئ أحد لأن يكتب كتاب ثم ليقول هذا كتاب خالي من الأخطاء ويستفتحه بدعاء وشكر وتعظيم مثل سورة الفاتحة ثم الحروف المقطعة (الم) وهي آية عظيمة ثم مثل قوله تعالى: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) 

يعني هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد على وجه الأرض الذي لا ينبغي لقارئه أن يشك به لحظة واحدة وأن يقرأه وقلبه مطمئن فهو أصح كتاب بالمطلق زمانا ومكانا فهو الكتاب الوحيد الذي أنزله الله -تعالى-
ولم تتدخل أو تعبث به يد مخلوق قط لا من قبل ولا من بعد كما حدث بالكتب السابقة له، وإنه لأهون على الله -تعالى- وأيسر أن يرفع كتابه وكلامه من الأرض ويعيده إليه على أن لا تعبث يد مخلوق فيه أو يبدل فيه حكم أو يلغى منه حد أو يحرف فيه حرف واحد ولا حتى أدنى من حركة سكون، فهو كتاب الله -تعالى- الذي استثناه بحفظه عما سبقه من الكتب كالتوراة والزبور والإنجيل وغيرها من كتب الله -تعالى- التي أنزلها،
وقال تعالى:
(9)   إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
[سورة الحجر].
فهو الذكر الذي خصه الله -تعالى- دون غيره مما سبقه من الذكر المنزل لأن الآية هنا خصت الذكر الذي أنزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فالآية الكريمة جاءت كجواب مرتبط لما جاء قبلها في سورة الحجر في قوله -تعالى-:
(6)   وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ.
[سورة الحجر].

لذا فلا يجب على قارئ القرآن الكريم الشك فيه ولا الريبة أيا كان دينه، وأن يحذر من ذلك لأنه لا يقرأ كتاب كأي كتاب بل إنه كتاب الله -تعالى- فالشك في القرآن الكريم والريبة فيه ومنه أمر يستوجب العقاب وعقاب الله -تعالى- ليس كأي عقاب فهو لا يطاق ولا يصطبر عليه أبدا فعذاب الله -تعالى- شديد أليم وقد سبق لكثير من عباد الله -تعالى- فيمن سبقنا من الأمم بأن شكوا وارتابوا بما جاءت به رسل الله -تعالى- وكفروا بها فأخذهم الله -تعالى- أخذ عزيز مقتدر وعاقبهم أشد عقاب،
وقال -تعالى-:
(9)   أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ۚ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.
(10)   قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ.
[سورة إبراهيم].

وهكذا نستشف من آيات الله -تعالى- أن الشك بكتابه وما أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو شك بالله -تعالى- ذاته سبحانه لأن القرآن الكريم هو كلام الله -تعالى- ومن يشك بكلامه فهذا يعني أنه شك بالله -تعالى-.

فمن التبس أو اشتبه عليه أمر من القرآن الكريم فليستعز بالله من الشيطان الرجيم ثم ليدع ما استعصى عليه فهمه إلى أحد من أهل العلم فيسأله، فقد قسم الله -تعالى- العباد إلى قسمين العامة والعلماء وما أكثرهم بفضل الله -تعالى- فقد سخر الله -سبحانه- الكثير من عباده لخدمة كتابه العظيم ونصرة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

نعود إلى تفسير الآية الكريمة (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) لنطرح سؤال: لماذا قوله تعالى (ذلك) وليس (هذا)؟ فكلتاهما أداتان للإشارة! صحيح ولكن الأولى للبعيد مكانا ومكانةً 
واعرابها:
(ذلِكَ) ذا اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ واللام للبعد والكاف للخطاب.

والثانية لقريب مكانا ولا يشترط مكانةً وكلتا الأداتين تليق بخطاب الله -تعالى-،
والله -سبحانه- بعيد مكانةً بمعنى أنه علي متعال مترفع عن عباده
وقال -تعالى-:
( 9 )   عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.
[سورة الرعد].

وقال أيضا:
( 62 )   ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
[سورة الحج].

وقال أيضا:
( 15 )   رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ.
[سورة غافر].

ولكنه سبحانه ليس ببعيد مكانا لأن من شرط البعيد مكانا أنه لا يقدر على المكان البعيد أن يصله أو يبلغه، والله -سبحانه- خلق جميع الأماكن وقدر عليها ووصلها بعلمه وسمعه وقدرته وبما يليق بجلاله العظيم، 

فنراه -سبحانه وتعالى- يرزق عباده ويطعمهم ويمرضهم ويشفيهم ويحيهم ويميتهم ويرسل الأمطار ويصرف الرياح وينبت الحب والأب والزرع ويغشي الليل بالنهار والعكس، لذا فإن كلتا الأداتين استحقتا أن تليقا بخطاب الله -تعالى- وكلامه، 

ولكن الأداة (ذلك) أتت هنا ليعلم العبد أن الذي يقول له هذا الكتاب الذي لا خطأ فيه ولا شك، هو الله -العلي المتعال المترفع عن جميع مخلوقاته- لذلك استوجب على العبد أن يطمئن قلبه لكتاب الله -تعالى- القرآن الكريم وأن يحزر من أن يرتاب فيه حتى ولو كان بحركة سكون لأن الله -المتعال- بذاته 
ومن فوق عرشه قال لعباده: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)


وقوله -تعالى-:
(هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)
والمتقي هو الذي يتنبه لكل أمر يغضب الله -تعالى- أو لا يرضيه ولا يحبه، ثم يحترس من ذاك الأمر فلا يأتيه فيفعله ويتحاشاه فيتجنب ألا يقع فيه فيكون بذلك قد أتقى الله -تعالى-، ومعنى كلمة (اتقى) في اللغة العربية هي الحذر من شيء ما أو الاحتراس منه، على سبيل المثال ولله المثل الأعلى فإنه سبحانه لا يحب المعتدين الذين يبغون على الناس بغير الحق لقوله -تعالى:
(.. فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) [البقرة].
وجميل في الآية أعلاه قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)
ففي هذه الحالة فليحذر الإنسان من أن يعتدي على أحد ما مهم كانت الأسباب

 والمتقي لله -تعالى- حق تقاته هو انسان ذو حظ عظيم من كرم الله -تعالى- وجود عطائه سبحانه فهو عبدٌ محبوب عند الله -تعالى- لقوله -سبحانه-:
(76)   بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. [سورة آل عمران].

كما أنه عبد كريم عند الله -تعالى- لقوله سبحانه: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن أبي هريرة رضي الله -تعالى-عنه قال:
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ , قال: " أتقاهم ".

وما يتميز به المتقي لله -تعالى- عن غيره من العباد أن الله -تعالى- يتقبل منه دعائه وجميع أعماله الحسنة لقوله -تعالى-: (.. إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) [المائدة].
وقال -تعالى-:
(115)   وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
[سورة آل عمران].

وقد بشر الله -تعالى- عباده المتقين بالجنة لقوله -سبحانه-:
(45)   إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
[سورة الحجر].
وفي قوله -تعالى-:
(31)   جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ.

وقد أثنى الله -تعالى- عليهم وامتدحهم فوصفهم بالطيبين لما جاءت الآية بعدها في نفس السورة من قوله -تعالى-:
(32)   الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
[سورة النحل].

وقال -سبحانه- أيضا:
(51)   إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ.
[سورة الدخان].

وقال -سبحانه- أيضا:
(85)   يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا.
[سورة مريم].


وقال -تعالى-:
( 16 )   فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
[سورة التغابن].


وعن معاذ قال: قلت: يا رسول الله، أوصني، فقال: "عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملت من سوء فأحدث لله فيه توبة: السر بالسر، والعلانية بالعلانية".



وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
Share on Google Plus

About Abd ElRahman

لا إله إلا الله محمد رسول الله
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.