والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء

والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء - أقوال العلماء

متابعة للموضوع السابق

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين أما بعد:
تحدثنا في الموضوع السابق عن المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى عن أعمال الكفار وقال سبحانه وتعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) النور}

وقلنا أن المثل غاية الإعجاز فلو قرأه إنسان ذو تفكير وتأمل متواضع فإنه سيعقله بشكل سلس وبسيط، وفي المقابل لو أن آخر بعقل ذو بصيرة ومرونة رياضية قرأه بتفكر وتأمل لقرأه على مقدار عقله وكلما جاء آخر بعقل أفطن كلما تصاعد المثل صعوبة وبلاغة وقوة، ولا صفة لهذا المثل العظيم إلا أنه آية من آيات الله سبحانه وتعالى.

فالمثل هنا هو مثل مضروب من جهة وواقع من جهة ثانية. فلو تأملنا الآية جيدا لوجدنا بها مقطعين، ينتهي المقطع الأول عند قوله (حتى إذا جاءه لم يده شيئا) ويبدئ المقطع الثاني عند قوله تعالى: (ووجد الله عنده).
فالأول وهم والثاني حقيقة، الأول حلم والثاني يقظة، الأول في الدنيا والثاني في الآخرة وكأن الكافر يمشي على طريق أوله في الدنيا وينتهي في الآخرة.

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه:
{وَالَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {أَعْمَالُهُمْ} مثل أَعْمَالهم فِي الْآخِرَة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} فِي بقاع من الأَرْض {يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً} العطشان مَاء من الْبعد {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} من الشَّرَاب فَكَذَلِك لَا يجد الْكَافِر من ثَوَاب عمله شَيْئا يَوْم الْقِيَامَة {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} وَوجد عِنْد الله عُقُوبَة ذنُوبه وَيُقَال وجد الله مستعداً لعذابه {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فوفره عَذَابه {وَالله سَرِيعُ الْحساب} شَدِيد الْعَذَاب وَيُقَال إِذا حاسب فحسابه سريع

قال الماتوريدي:
وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) جائز أن يكون ضرب مثل أعمال الكفرة بالسراب الذي ذكر من وجهين:
أحدهما: أنهم قد عملوا في الظاهر أعمالا طمعوا أن يصلوا إليها في الآخرة، وينتفعوا بها من نحو الصدقات، والنفقات، وصلة الأرحام، ونحوه مما هي في الظاهر أعمال الخير، فإذا هم حُرِمُوا أجرها ولم يجدوا شيئًا كالذي يرى السراب من بعيد يحسبه ماء فسار إليه، فإذا هو لا شيء؛ فعلى ذلك الكفار عملوا تلك الأعمال على طمع منهم أنهم ينتفعون بها، فإذا هم على لا شيء كالعطشان الذي يرى السراب، فحسبه أنه ماء، فإذا هو سراب.
والثاني: ضرب مثل أعمالهم بالسراب الذي ذكر، وذلك أنهم قد عبدوا الأصنام والأوثان رجاء أن ينتفعوا بشفاعتهم في الآخرة؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، وكانت عبادتهم لما ذكروا من شفاعتهم عند اللَّه ثم لم ينتفعوا فصاروا كالعطشان الذي يرى السراب يحسب أنه ماء؛ فإذا جاءه وجده سرابًا؛ لم يجده ماء كما حسبه، إلى هذا تمام المثل. ثم ابتدأ فقال: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) أي: وجد اللَّه يوفيه حساب عمله وجزاءه.


وقال الشعراوي وقوله أمتع:
الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أنْ يلفت أنظار مَنْ شغلتهم الدنيا بحركتها ونشاطها عن المراد بالآخرة، فيصنعون صنائع معروفٍ كثيرة، لكن لم يُخلصوا فيها النية لله، والأصل في عمل الخير أن يكون من الله ولله، وسوف يُواجَه هؤلاء بهذه الحقيقة فيقال لأحدهم كما جاء في الحديث: " عملت ليقال وقد قيل ".
  لقد مدحوك وأثنَواْ عليك، وأقاموا لك التماثيل وخَلَّدوا ذِكْراك؛ لذلك رسم لهم القرآن هذه الصورة: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39].
{أَعْمَالُهُمْ} [النور: 39] أي: التي يظنونها خيراً، وينتظرون ثوابها، والسراب: ما يظهر في الصحراء وقت الظهيرة كأنه ماء وليس كذلك. وهذه الظاهرة نتيجة انكسار الضوء، و " قِيعة ": جمع قاع وهي الأرض المستوية مثل جار وجيرة.
وأسند الفعل {يَحْسَبُهُ} [النور: 39] إلى الظمآن؛ لأنه حاجة للماء، وربما لو لم يكُنْ ضمآناً لما التفتَ إلى هذه الظاهرة، فلظمئه يجري خلف الماء، لكنه لا يجد شيئاً، وليت الأمر ينتهي عند خيبة المسعى إنما {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] فُوجىء بإله لم يكُنْ على باله حينما فعل الخير، إله لم يؤمن به، والآن فقط يتنبه، ويصحو من غَفْلته، ويُفَاجأ بضياع عمله.
إذن: تجتمع عليه مصيبتان: مصيبة الظمأ الذي لم يجد له رِياً، ومصيبة العذاب الذي ينتظره، كما قال الشاعر: كَما أبرقَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامَةٌ   فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتَجلَّتِوسبق أن ضربنا مثلاً لهذه المسألة بالسجين الذي بلغ منه العطش مبلغاً، فطلب الماء، فأتاه الحارس به حتى إذا جعله عند فيه واستشرف المسكين للارتواء أراق الحارسُ الكوبَ، ويُسمُّون ذلك: يأْسٌ بعد إِطْماع.
لذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطينا في الكون أمثلة تُزهِّد الناس في العمل للناس من أجل الناس، فالعمل للناس لا بُدَّ أن يكون من أجل الله. وفي الواقع تصادف مَنْ ينكر الجميل ويتنكر لك بعد أنْ أحسنْتَ إليه، وما ذلك إلا لأنك عملتَ من أجله، فوجدت الجزاء العادل لتتأدب بعدها ولا تعمل من أجل الناس، ولو فعلتَ ما فعلتَ من أجل الله لوجدتَ الجزاء والثواب من الله قبل أنْ تنهتي من مباشرة هذ الفعل.
وفي موضع آخر يُشبِّه الحق سبحانه الذي ينفق ماله رياء الناس بالحجر الأملس الذي لا ينتفع بالماء، فلا ينبت شيئاً: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىا شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] فإياك أنْ تستبعد الموت أو البعث، فالزمن بعد الموت وإلى أن تقوم الساعة زمنٌ لا يُحسَب لأنه يمرُّ عليك دون أن تشعر به ، كما قال سبحانه:{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }[النازعات: 46].
والله تعالى أخفى الموت أسباباً وميعاداً؛ لأن الإبهام قد يكون غاية البيان، وبإبهام الموت تظل ذاكراً له عاملاً للآخرة؛ لأنك تتوقعه في أي لحظة، فهو دائماً على بالك، ومَنْ يدريك لعلَّك إنْ خفضْتَ طرْفك لا ترفعه، وعلى هذا فالحساب قريب وسريع؛ لذلك قالوا: مَنْ مات فقد قامت قيامته.

وقال الماوردي:
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أََعَمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بقِيعَةٍ} أما السراب فهو الذي يخيل لمن رآه في الفلاة كأنه الماء الجاري قال الشاعر:
(فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلاَ مُتَأَلِّق)
والآل كالسراب إلا أنه يرتفع عن الأرض في وقت الضحى حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء , وقيل: إن السراب بعد الزوال والآل قبل الزوال والرقراق بعد العصر وأما القيعة فجمع قاع مثل جيرة وجار , والقاع ما انبسط من الأرض واستوى. {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} يعني العطشان يحسب السراب ماءً. {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} وهذا مثل ضربه الله للكافر يعول على ثواب عمله فإذا قدم على الله وجد ثواب عمله بالكفر حابطاً. {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} فيه وجهان: أحدهما: وجد أمر الله عند حشره. الثاني: وجد الله عند عرضه. {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: ووجد الله عند عمله فجازاه على كفره. والثاني: وجد الله عند وعيده فوفى بعذابه ويكون الحساب على الوجهين معاً محمولاً على العمل. كما قال امرؤ القيس:
(فوّلَّى مُدْبِراً وَأيْقَنَ ... أنَّه لاَقِى الْحِسَابَا)
{وَاللَّهُ سَرِيع الْحِسَابِ} يحتمل وجهين: أحدهما: لأن حسابه آت وكل آت سريع.

وقال الجزائري:
قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب} لما بين تعالى حال المؤمنين وأنه تعالى وفاهم أجرهم بأحسن مما كانوا يعملون وزادهم من فضله ذكر هنا حال الكافرين وهو أن أعمالهم في خسرانها وعدم الانتفاع بها كسراب وهو شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء {بقيعة} أي بقاع من الأرض وهو الأرض المنبسطة {يحسبه الظمآن ماء} أي يظنه العطشان ماء وما هو بماء ولكنه سراب خادع {حتى إذا جاءه لم يجد شيئاً} لأنه سراب لا غير. فيا للخيبة، خيبة ظمآن يقتله العطش فرأى سراباً فجرى وراءه يظنه ماء فإذا به لم يجد الماء، ووجد الحق تبارك وتعالى فحاسبه على كل أعماله وهي في جملتها أعمال إجرام وشر وفساد فوفاه إياها فخسر خسراناً مبيناً، {والله سريع الحساب} فما هي إلا لحظات والكافر في سواء الجحيم . هذا مَثَلٌ تضمنته الآية الأولى (39)

وقال الألوسي:
{ والذين كَفَرُواْ } إلى آخره عطف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف والذين كفروا { أعمالهم كَسَرَابٍ } أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة وسقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الاضياف ونحو ذلك على ما قيل ، وقيل أعمالهم التي يظنون الانتفاع بها سواء كان مما يشترط فيها الإيمان كالحج أم كانت مما لا يشترط فيها ذلك كسقاية الحاج وسائر ما تقدم ، وقيل المراد بها ما يشمل الحسن والقبيح ليتأتى التشبيهان ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك ، والسراب بخار رقيق يرتفع من قعور القيعان فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه من بعيد الماء السارب أي الجاري واشترط فيه الفراء اللصوق في الأرض ، وقيل هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في قيافي الأرض المنبسطة ، وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر يخيل للناظر أنه ماء سارب ، قال الشاعر
: فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ... كلمع سراب في الفلا متألق
وإلى هذا ذهب الطبرسي ، وفسر الآل بأنه شعاع يرتفع بين السماء والأرض كالماء ضحوة النهار { بِقِيعَةٍ } متعلق بمحذوف هو صفة سراب أي كائن بقيعة وهي الأرض المنبسطة المستوية ، وقيل هي جمع قاع كجيرة في جار ونيرة في نار ، وقرأ مسلمة بن محارب { *بقيعات } بتاء طويلة على أنه جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة ، وعنه أيضاً أنه قرأ { *بقيعاة } بتاء مدورة ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا : البناه والأخواه ، ويحتمل كما قال صاحب اللوامح أن يكون مفرداً وأصله قيعة كما في قراءة الجمهور لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف { يَحْسَبُهُ الظمان } صفة أخرى لسراب .
وجوز أن يكون هو الصفة وبقيعة ظرفاً لما يتعلق به الكاف وهو الخبر؛ والحسبان الظن على المشهور وفرق بينهما الراغب بأن الظن أن يخطر النقيضان بباله ويغلب أحدهما على الآخر والحسبان أن يحكم باحدهما من غير أن يخطر الآخر بباله فيعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك ، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائناً من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفية في وجه الشبه الذي هو المطلع المطمع والمقطع المؤيس .
وقرأ سيبة . وأبو جعفر . ونافع بخلاف عنهما { يَحْسَبُهُ الظمان } بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم { حتى إِذَا جَاءهُ } أي إذا جاء العطشان ما حسبه ماء ، وقيل إذا جاء موضعه لَمْ يَجدْهُ } أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به { * } أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به { شَيْئاً } أصلا لا محققاً ولا مظنوناً كان يراه من قبل فضلاً عن وجه أنه ماء ، ونصب { شَيْئاً } قيل على الحالية ، وأمر الاشتقاق سهل ، وقيل على أنه مفعول ثان لوجد بناء على أنها من أخوات ظن ، وجوز أن يكون منصوباً على البدلية من الضمير ، ويجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا نعت إذا كان مفيداً كما صرح به الرضى ، واختار أبو البقاء أنه منصوب على المصدرية كأنه قيل لم يجده وجداناً وهو كما ترى { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } عطف على جملة { لَمْ يَجِدْهُ } فهو داخل في التشبيه أي ووجد الظمآن مقدوره تعالى من الهلاك عند السراب المذكور ، وقيل أي وجد الله تعالى محاسباً إياه على أن العندية بمعنى الحساب لذكر التوفية بعد بقوله سبحانه : { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ } أي أعطاه وافياً كاملاً حساب عمله وجزاءه أو أتم حسابه بعرض الكتبة ما قدمه { والله سَرِيعُ الحساب } لا يشغله حساب عن حساب .
وفي إرشاد العقل السليم أن بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل قد تم بقوله سبحانه : { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } ، وقوله تعالى : { وَوَجَدَ } الخ بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن . ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر للخيبة عنده أصلاً فليست الجملة معطوفة على { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم عيناً ولا أثراً كما في قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاءوها لم يجدوها شيئاً كأنه قيل : حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئاً ووجدوا الله أي حكمه وقضاءه عند المجيء ، وقيل : عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافياً حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير إيمان وعملهم بموجبه كفر على كفر موجب للعقاب قطعاً ، وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالظمآن الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم ، وكذا افراد ما يرجع إلى أعمالهم انتهى ، ورلا يخفى ما فيه من البعد وارتكاب خلاف الظاهر .
وأياً ما كان فالمراد بالظمآن مطلق الظمآن ، وقيل المراد به الكافر ، وإليه ذهب الزمخشري قال : شبه سبحانه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ويجد زبانية الله تعالى عنده يأخذونه فيسقونه الحميم والغساق وكأنه مأخوذ مما أخرجه عبد بن حميد .
وابن المنذر . وابن أبي حاتم من طريق السدى في غرائبه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الكفار يبعثون يوم القيامة ورداً عطاشاً فيقولون أين الماء فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم والله سريع الحساب » واستطيب ذلك العلامة الطبي حيث قال : إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة ولم يطلق لقوله تعالى : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } الخ لأنه من تتمة أحوال المشبه به ، وهذا الأسلوب أبلغ لأن خيبة الكافر أدخل وحصوله على خلاف ما يؤمله أعرق .
وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم من حمل الظمآن على الكافر تشبيه الشيء بنفسه . ورد بأن التشبيه على ما ذكره جار الله تمثيلي أو مقيد لا مفرق كما توهم فلا يلزم من اتحاد بعض المفردات في الطرفين تشبيه الشيء بنفسه كاتحاد الفاعل في أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ، وبالجملة هو أحسن مما في الإرشاد كما لا يخفى على من سلم ذهنه من غبار العناد .

والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام ولا يأبى ذلك قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ } لأنه غير خاص بسبب النزول وإن خذل فيه دخولاً أولياً ، ولا يرد عليه أن الآية مدنية نزلت بعد بدر وعتبة قتل في بدر فإن كثيراً من الآيات نزل بسبب الأموات وليس في ذلك محذور أصلاً ، ثم لا يبعد أن يكون في حكم هؤلاء الكفرة الفلاسفة ومتبعوهم من المتزيين بزي الإسلام فإن اعتقاداتهم وأعمالهم حيث لم تكن على وفق الشرع كسراب بقيعة.

------------

إلى هنا اكتفينا ولم ننتهي وسأتابع في موضوع قادم إن شاء الله تعالى.

يتبع
Share on Google Plus

About Abd ElRahman

لا إله إلا الله محمد رسول الله
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.