تفسير قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين،
تفسير قوله -تعالى-:
( 45 )   أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا
( 46 )   ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا
[سورة الفرقان].
الآية بالدرجة الأولي ليلفت الله -تعالى- نظر عباده إلى ما خلق وأبدع في ذلك، فالظل لم يأتي وحده أو أنه أتى بالصدفة بل الله -تعالى- هو الذي خلقه وابتدعه فأوجده كما أنه سبحانه و-تعالى- لم يوجده عن عبث بل أوجده بعلمه وحكمته فتبارك الله -تعالى- العليم الحكيم.
وقال ابن كثير:
من هاهنا شرع تعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده ، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة. ..//انتهى//..

فالظل يعتبر شيئا مهما لاستمرارية الحياة على وجه الأرض لكثير من المخلوقات بما فيها الإنسان والحيوان، وأذكر أني كنت أسير في أحدى القرى الريفية وكان حر الشمس قد احتدمت حمأته فتعدت الرمضاء الدفئ إلى اللهيب فأصبحت أشعة الشمس وكأنها سكاكين متجمرةً مستعرةً ساقطة من السماء على الأرض كالبرق الحارق المستقيم فجعلت الأرض تفيح قيظ الصيهد ملتهبا بعد أن ذبحت الزمهرير فأصبح كالشاة المشوية، فأين المفر من أشعة الشمس الهاجرة، فنظرت عن شمالي فإذا ببستان من الأب مسورٌ فأمعنت فإذا



فيه أحصنة قد وقفوا يتفيئون تحت ظل شجرة هربا من أشعة الشمس المحرقة تلك الأشعة التي تجعل من ظهر الرقبة البيضاء سمراء إلى السواد وما إلى ذلك، فوقفت هنيهةً أُطنب ناظريا ممعنا في هذا المشهد المقدس المكون من آيات الله -تعالى-العظيم- وقد أكثر -سبحانه- منها بعد أن ملء السموات والأرض إتراعا فأطفحهم بآيآته العظام، فاستحضرتني على الفور آية الله -تعالى- وهو يمجد نفسه فيها ويتباها ويكأنه يقول: "ألا هل من إله إلا الله خلق الظل ومده، أم حسبتم أيها العباد أن الظل أتى وحده أو عبثا أو صدفة إنما الذي أوجده هو الله خالق السماوات والأرض رب كل شيء السبوح القدوس المليك القادر المقتدر" ألا إن الله هو الذي صنع هذا الظل الجميل فأحسن صنعته ومده في الأرض فأحسن مدده ومِداده فتبارك الله العيظيم الذي له ملكوت السماوات والأرض وملكوت كل شيء العزيز الحكيم.
ثم أني وباللا شعور أخرجت كاميرا جوالي فأخذت بعض الصور لذلك المشهد الغني بآيات الله -تعالى-العظيم- ثم سبحت الله -تعالى- ومجدته وعظمته ورَفعته وباركته وقدسته، وشكرته على ما فتحى لي عيني فجعلني أبصر آياته العظام أينما ذهبت، ألا من أنا سوى عبد كان أعمى أصم أبكم ألا من أنا سوى عبد ذليل كجرذ الحقل الهارب المختبئ في جحره، ألا يا الله إني عبدك الذليل المسكين الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا حولا ولا قوة إلا بك.
ألا إن من يرى آيات الله -تعالى- العظام ثم لا يوحده ويسبحه ولا يعظمه ويمجده ثم يمر من أمام آيات الله -تعالى- متعاميا عنها وكأنه لا يراها مستكبرا عنها وعن عبادة الله -تعالى- فإن جهنم تنتظره وهي جزاء له جزاءً موفورا.


التفسير:
كيف مد الله -تعالى- الظل؟
والفعل مد في اللغة العربية يحتمل عدت معاني من بينها "مد" بمعنى العطاء المستمر أو الدعم ومنها قوله -تعالى-:
( 132 )   وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ
( 133 )   أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
[سورة الشعراء].
وأيضا قوله -تعالى-:
( 125 )   بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
[سورة آل عمران].
وقوله أيضا:
( 109 )   قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا.
[سورة الكهف].
وقوله أبضا:
( 12 )   وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا
[سورة نوح].
وهنا نلاحظ الفعل "مد" يأتي برزق أو أعطى وما إلى ذلك.
ونقول أيضا "فلان يمد شباكه للصيد" بمعنى يسحبها من الفلك إلى الماء فهو يدل على العطاء المستمر إلى حين ما. كذلك الظل فإن الله -تعالى- يمده بأشعة الشمس بشكل مستمر فالظل هو زوج الحر المغاير له، كما أنه ينعكس عن الأشياء التي يسقط عليها ضوء الشمس وكما نعلم علميا فإن الضوء يمشي بشكل متواصل وله سرعة محددة فأن وقع على شيء ما انعكس له ظلا ثم يبقى ظل ذلك الشيء مادام الضوء يسقط عليه وفي هذه الحالة فإن أفضل تعبير له "الظل الممدود بالضوء" فلو انقطع مدد الضوء عن ذلك الشيء ذهب ظله من فورها، لذا فإن الله -تعالى- هكذا يمد الظل يمده بضوء الشمس كما يمد عباده بأرزاقهم من ماء وطعام وملبس وأوكسجين إلخ..

ولكن الفعل "مد" يأتي في القرآن الكريم بمعنى آخر أيضا مثل "مد" بمعنى أطال أو بسط أو سطح وما إلى ذلك،
كقوله -تعالى-:
( 3 )   وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ
[سورة الإنشقاق].

وفي الآية الكريمة (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ ) يأتي معنى الفعل بالمعنين "مد" بمعنى "أعطى-أمد" ويأتي أيضا "مد" بمعنى "أطال-سطح-بسط".
ونعود لنكرر السؤال، كيف مد الله -تعالى- الظل؟ والجواب مده بأشعة الشمس كما يمد  عباده ومخلوقاته الحية بالأوكسجين والهواء والماء والرزق، كذلك يمد الله -تعالى- الظل بضوء الشمس وفي الآية دلالة واضحة على أن الضوء يمشي ويسير وأنه شيء متحرك،
فلو أردنا مثلا أن نجعل للشيء ظلا فعلينا بتسليط الضوء نحوه فينعكس ظله بحسب زاوية الضوء المسلط عليه، وحتى نبقي الظل لمدة زمنية ما فنحتاج لأن نمد الجسم المنعكس ظله بالضوء بحسب المدة التي نريد، فيصبح لدنيا ظلا ممدودا فلو لم نمده بالضوء لما كان له أن ينعكس. هذا مثال ولله المثل الأعلى، طبعا نحن عندما نعكس الضوء على جسم ما فإن ظله ينعكس فورا هذا بسبب أن الله -تعالى- هو الذي خلق هذا القانون وأبدعه وعممه في الكون، وإلا لما كنا عرفنا ظلا ولا ظلالا ولا فيئا ولكان الضوء سيمر من خلال عامة الأجسام ويخرقها كما يمر من خلال الزجاج الشفاف.
لذا فإن الله -تعالى- يمد الظل بضوء الشمس حتى يبقيه منعكسا من اللحظة التي يأتي بها بالشمس من الفجر إلى أن يذهبها في وقت المغرب.

كذلك فإن الآية الكريمة تحتمل المعنى الثاني لكلمة "مد" وهي "بسط أو سطح" وقوله -تعالى- "أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ" بمعنى مده في الأرض بسطه فجعل شكله ينطبع على الأرض بحسب الجسم الممدود بالضوء، لم يجعل شكل الظل مثلا ثلاثي الأبعاد كأن يجد المرئ ظل الشجرة على شكل شجرة أخر سوداء واقفة أمام جسم الأولى وكأنها مثلها لكنها سوداء أو بلون الظل، ولم يجعل شكل الظل مغايرا للجسم المنعكس منه أو معاكسا أو على شكل دوائر أو مبرعات أو أنه متلاشي متناثر ولم يجعله ينعكس من الجسم إلى السماء أو إلى اليمين أو الشمال بل جعله مطبوعا على الأرض بشكل ممدد مدود مشابه للجسم الذي انعكس عنه مسطوحا في الأرض وجعل ما بينهما فيئا (الفيء) ومنها قوله -تعالى-:
( 48 )   أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ.
[سورة النحل].
كما جعله ينعكس عن الجسم الذي أمده بالضوء بحسب زاوية الضوء الذي أمده فيه أو الذي أسقطه عليه.
لذلك فإننا عندما ننظر  إلى ظلال الأشياء في النهار فإننا نجد ظلا مده الله -تعالى- بضوء الشمس كما مده وبسطه في الأرض بشكله المناسب المنساب مع شكل الجسم المنعكس عنه.
كما أن الظل قد جعله الله -تعالى- دلالة على الواقع والمنطق فعلى سبيل المثال لو أتى أحد ما ليرسم رسمة معينة أو ليصمم منظرا أو مشهدا ما فعند ذلك سيكون من أصعب الخطوات التي ستواجهه وهي عكس ظلال الأشياء التي يرسمها بشكلها  المنطقي ويزداد الأمر صعوبة مع ازدياد الأشياء التي يرسمها واختلاف أوضاعها وأشكالها وأبعادها ومهمى بلغى الرسام من احترافه فلابد وأن تجد له أخطاءً إذا ما عرضت لوحته على خبير ليحسبها بشكلها المنطقي فيقول لك ها هنا الظل مبالغ فيه وهاهنا غير منطقي لأن الضوء يأت من جهة كذا وكذا الخ..
فكيف بك أخي القارئ لو علمت أن الله -تعالى- مد ظلال كل الأشياء في الكون التي يمكن للظل أن ينعكس عنها فأحسن مدها بشكلها المناسب المنطقي الصحيح ثم أنه سبحانه خلق فأوجد قانون الظل فأصبح كل ما جاء أحد ليسلط الضوء على شكل ما انعكس ظل ذلك الشيء بشكله الصحيح وبحسب زاوية الضوء الساقط عليه.

وقوله -تعالى-: (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) أي مسك النهار فلا تغيب الشمس فيصبح نهار ثرمدا أبديا لا يذهب، وذلك قوله تعالى:
( 72 )   قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ
[سورة القصص].
مثلا، اعتقد علماء الفلك فيما سبق أن كوكب عطارد يدور حول الشمس بوجه واحد بمعنى أن نهاره نهارا أبديا وليله ليلا أبديا ولكن هذه الفرضية اتضح فيما بعد أنها غير صحيحة ولكن لو كان ذلك لكان الظل فيه طلا ساكنا ثرمديا لا يتحرك، كذلك الأمر فلو شاء الله لأمسك نهار الأرض فجعلها تقابل الشمس بوجه واحد عند ذلك سيسكن الظل ويصبح ظلا ثرمديا دائما لا يتحرك، كما أن الآية الكريمة تدل على قانون لو شاء الله -تعالى- لخلقه وأوجده فيجعل فيه الظل ساكنا لا يتحرك ولا تنسخه الشمس ولو شاء الله -تعالى- لخلقه فهو الخالق والواجد لكل شيء على سبيل المثال أن الله -تعالى- خلق عبده المسيح من دون أب وهو أمر إعجازي وقال -تعالى-:
( 47 )   قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ.
[سورة آل عمران].


ثم أن هذه الآية العظيمة البينة لفيها من القيمة ما يعجز العباد عن إحصائه ذلك أنها تدل على الله الذي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الله الخالق للوجود والمالك له يخاطبك عباده عن إبداعاته وإتقانه في صنعته ومقدرته على خلق الأشياء، وقال -تعالى-:
( 7 )   الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ
[سورة السجدة].

هذا هو دين الإسلام العظيم وهذا كتابه العظيم القرآن الكريم كلام الله -تعالى- الذي نزل على عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من لدن الإله الخبير العليم الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهن، حيث منطق القرآن الكريم هو القوانين التي خلقها الله -تعالى- وأبدعها وجعلها نواميس للكون.
ويطول الحديث حول هذه الآية العظيمة ونكفي إلى هنا.
تم بحول الله -تعالى- العظيم ومنته وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 









Share on Google Plus

About Abd ElRahman

لا إله إلا الله محمد رسول الله
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.