احذر أن يصيبك ما أصابهم


كنت اقرأ القرآن الكريم في سورة الأنبياء، وإذا بي أقف عند قوله -تعالى-:
قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15).
سورة الأنبياء.




توقف عند هذه الآية الكريمة، إنها واحدة من بين أكثر الآيات رعبا، والتي لو تأملت وتفكرت فيها حق التمعن، لأربكت كيان قارئها لما فيها من الرهبة المفزعة، فعبر التاريخ والزمان كان هناك الكثير من الأمم، التي أرسل الله -تعالى- إليها الرسل والانبياء، من أجل تحييدهم عن الضلالة بغية إخراجهم من الظلمات إلى النور، ولكن تلك الأقوام السالفة لطالما كانت جاحدة كافرة ناكرة، لم يكونوا ليأبهوا بما أنعم الله -تعالى- عليهم إذ بعث لهم بالأنبياء وأرسل إليهم بالرسل، وقال -تعالى-:
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)
سورة الزخرف.

وقال أيضا:
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
سورة النحل.

وعلى الرغم مما استندنا فيه من آيات الله -تعالى-، لم يكن المغزى منها إلا الاستشهاد بها، ولكن لب موضوعنا يتمحور حول قوله -تعالى-: قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15). سورة الأنبياء.

وما استدعانا للوقوف عند هذه الآية، إلا خطورة ما فيها، حيث أن الله -تعالى- الذي يتباهى بنفسه بأنه هو الغفور الرحيم، وصل حال تلك الأقوام البائدة عنده، أنهم استغفروه فلم يغفر لهم، تابوا إليه فلم يقبل توبتهم، استعتبوا فما كانوا من المعتبين.
والذي يمكن استنباطه، هو أن لله -تعالى- حدود، لمجرد أن يتخطاها العبد، يصبح العذاب حقا لا محال له أن يحيد، عند ذلك فلا تنفع التوبة ولا المغفرة ولا الإنابة.
دعنا نرجع إلى الآيات القرآنية الكريمة، في قوله -تعالى-:
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11).
يبلغ الله -تعالى- أنه قصم أي أخذ القرى بالعذاب فأبادها وأهلكها،
وقوله -تعالى-:
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
أي أن تلك الأقوام المبادة عندما أحست أو شعرت ببأس الله -تعالى- وقوة عذابه الواقع بهم، عند ذلك كانوا يدركون بأنهم قد أخطأوا خطأ فادحا في معصية رسل الله -تعالى- وبأنهم كان يجب عليهم تصديق أو لائك الرسل والاستجابة إلى الله -تعالى- بدلا من الكفر بالله وتكذيب رسله والجحود بآياته.
لذلك كانت تلك الأمم البائدة عندما يقع فيها العذاب، فإنهم كانوا يستقبلونه وهم على علم مسبق بحدوثه، ولم يختلف الحال معهم سوى أنهم من قبل العذاب كانوا مكذبين كافرين، بيد أنهم حين العذاب أصبحوا مؤمنين شاهدين ولم يكن الإيمان عندئذ لينفعهم طالما أنهم استوفوا جميع شروط الهلاك وقال -تعالى: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51))، لذا فلم يجدوا لأنفسهم بدا إلا الهروب أو الفرار، لكن ممن؟ فلا يمكن الفرار من الله -تعالى- لا في حياة ولا في ممات ولا برزخ ولا حتى يوم القيامة، ومع ذلك فإنهم كانوا يهربون لعزة الروح حيث لا ينفع الهروب.
وقوله -تعالى-:
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13).
أرأيت المرء إن كان مذعورا خائفا، فإنه يكون أشد الحاجة إلى من يواسيه ثم يسأله ما بك يا فلان؟ لماذا أنت مذعور هكذا؟
ولكن هذا لم يكن ليحصل لها أولاء الأقوام المعذبين، بل على العكس إن الله استهزئ بهم، ولم يتوقف الأمر بهم إلى هذا الحد، إنما تعداه لدرجة أن الله -تعالى- أنزل ذكرهم في القرآن الكريم هكذا على سبيل التقريع.
دعنا نوضح الأمر أكثر، فعبر التاريخ مرت الكثير من الأمم الكافرة، التي أخذها الله -تعالى- بذنوبها أخذ غزيز مقتدر، منهم من أرسل عليه ناراً شُويَ بها وهو حي، ومنهم من أهلكهم بصيحة أي شوط من العذاب ومنهم من أهلكهم بريح وآخرون أمطر عليهم نارا وحجارةً من السماء وغيرهم كان الله -تعالى- قد خسف بهم الأرض ومنهم من أغرقه إلخ..
وقال -تعالى-:
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
والحاصل أنه ومع اختلاف أنواع العذاب إلا أنها تصب في مصب واحد، لابد أنهم كلهم ذاقوا ويلات العذاب وقد غمرهم الشعور بالألم والحسرة والندامة لقد تجرعوا أشنع وأقبح ألوان العذاب، فعندما كان العذاب يقع بهم، كانوا يصطرخون ويأنون ويبكون ويتحسرون، ولعل أحدهم قد وقع في نفسه أو خطر على باله، بأن الله -تعالى- سيغفر له بعد أن أوقع فيه العذاب، والجواب لا على الإطلاق حتما لا، وما نراه بأن الله -تعالى- لم يوقف عليهم لا سماءً ولا أرضاً إنما استأنف أمر الخلق فخلق غيرهم أعدادا هائلة من البشر، ولم يتوف الأمر على ذلك فحسب، بل تعداه إلى أن أرسل الله -تعالى- رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ثم أنزل عليه كتابا يخبرنا فيه أخبار تلك الأقوام التي أبادها، على سبيل المثال بعدما أهلك الله -تعالى- قوم عاد ثم مرت خمسة آلاف سنة وأكثر، حتى أرسل الله -تعالى- رسوله عليه الصلاة والسلام ثم أوحى إليه ذكر قوم عاد والطامة هي لم يُنزل الله -تعالى- بآية دلت على أنه قد غفر لكافر من كفار عاد، إنما آيات كلها على سبيل الذم والتقريع والتوعد بالعذاب يوم الحساب.
واقسم بالله بأن هذا شيء مفزع ويدعوا للرهبة وأخذ الحذر بشكل كامل من غضب الله -تعالى-، وهو القائل سبحانه (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى).

وقوله -تعالى-:
قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14).
وهنا اعترافهم واقرارهم بأنهم قد خسروا أنفسهم أيما خسارة، حيث لم يعد من مكان ولا مجال للتعويض أو النجاة.
دعنا نرجع قليلا إلى ما قبل وقوع العذاب بالأقوام المهلكة، حيث أنهم كانوا على أديان وثنية كفرية متنوعة، وكانت رسلهم تأتيهم لتنهاهم عن تلك العبادات، ولكن تلك الأقوام لطالما كانت تكفر وتكذب رسل الله -تعالى- وتصر على التشبث بأديانها الوثنية، وعندما كان الموقف يشتد على رسل الله -تعالى-، كانوا يدعون الله -تعالى- طالبين منه العون، ولكن الله -تعالى- لا يعاجل بالعقاب، إنما يمهل القوم، ليس ذلك فحسب، بل يبتليهم تارة بالأمور الحسنة فإن لم يستجيبوا، أرسل عليهم البلايا العظام فابتلاهم بالأمور السيئة، ولم يكن المبتغى من ذلك إلا لكي يعلموا ألا إله إلا الله -تعالى-، وإلا فلتأتي آلهتكم وأصنامكم فلترفع عنكم تلك السيئات الواقعة بكم. وأحيانا يكون العكس أي يبتليهم في بادئ الأمر بالسيئات فإن لم يستجيبوا ابتلاهم بالحسنات، فإن لم يستجيبوا في كلتا الحالتين أيتهما كانت السابقة، فعند ذلك يُنزل الله -تعالى- عقابه وعذابه الشديد بحيث لا يشعر القوم أنفسهم إلا والعذاب واقع بهم، فلا مفر منه وعند ذلك تبدأ الحسرة تتفجر من قلوبهم ويعلمون وقتها ألا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم يبدؤون يلجون بالاعتذار والاستغفار مع التوبة والترجي بكل ما أوتوا من قوة أن يغفر الله لهم، فلا يغفر لهم ولا يستجيب دعائهم ولا يحكم الله -تعالى- فيهم إلا بالهلاك فيحل على القوم غضب الله -تعالى- فيقعون هاوين أيما وقوع لا وقوع مثله، وكأنما قد أدخلوا جهنم ثم أوصدت عليهم فلا مفر ولا مخرج.
فلا يزالون يستغفرون حتى يأخذهم الله -تعالى- الأخذة الأخيرة فيبلسون أشد ما إبلاس لا توبة لهم ولا مغفرة ولا رحمة، ثم يجعلهم الله -تعالى- في عذاب البرزخ ريثما يأذن لنافخ الصور استعدادا لإدخالهم نارا جهنم فلا خروج، ولم يقتصر الأمر على ذلك إنما يتبعهم للعنة في الدنيا فلا يذكرهم أحد إلا بسوء فيصبحوا أحاديث.
وهذا قوله -تعالى-:
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
سورة الأنبياء.

وما الحكمة من ذكر تلك الأقوام إلا لكي تعلم من هو الله -تعالى- وما الذي فعله بمن عصاه فيمن كانوا قد سبقونا فأهلكهم ولعنهم وأعد لهم عذابا أليما شديدا، ذلك كي تعرف الله الذي لا إله إلا هو فتحذره وتحترس من غضبه، فإنه إن غضب يعذب وإن عذب فإن عذاب أليم شديد.
نعم قد يقول قائل إن الله -تعالى- غفور رحيم، ولكن ذاك القائل لم يكن له ليقول ذلك إلا أنه لا يزال في السليم خارج دائرة العذاب، ولكن عند وقوعه لن تعود تلك الكلمة ليوجد لها من فائدة، إن وقع العذاب بالعاصي أو من كان على شاكلته.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

Share on Google Plus

About Abd ElRahman

لا إله إلا الله محمد رسول الله
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.